عاجل

"أناشيد آدم": تأمّل سينمائي في تراجيديات الزمن العراقي

العربي الجديد

"أناشيد آدم": تأمّل سينمائي في تراجيديات الزمن العراقي

  • منذ 2 شهر
  • العراق في العالم
حجم الخط:

 

يكتب المخرج العراقي عدي رشيد نصّ فيلمه "أناشيد آدم" (2024) بأسلوبٍ يُقارب الواقعية السحرية، مُقترحاً بذلك فتح مجازات الخيال السينمائي على اتّساعها، لتتقبّل كلّ عجائبيّ وخارج عن السياق السردي المألوف، وليُقارب بها أيضاً تقلّبات الزمن العراقي العجيب، الموصوم بويلات وأوجاع لا فكاك للعراقي منها.

ربما بـ"تجميد" الزمن، كما تفعل الصورة الفوتوغرافية لحظة التقاطها مشهداً أو لحظة، يُمكن بها معاندة مساره المكروه، كما يفعل الصبي آدم، حين يُقرّر إيقاف نموّه الجسدي بإرادته، حتّى لا يكبر ويرى ما يُخبّئ له الزمن من آلامٍ وخيبات، تلازم حياة العراقيّ، ويعاملها باستسلام كقدر محتوم.

على فكرة إيقاف الصبي نموّه الجسدي، يؤسّس رشيد حكاية فيلمه. وتساوقاً مع منطقها الداخلي، يعتني برسم تفاصيل المكان الذي تجري فيه. ولمقاربة فعل الزمن، المارّ على أبطاله المُقيمين فيه، يوظّف مهارته الإخراجية والكتابية لمعاينة مساحة طويلة من تاريخ العراق، لا يهتمّ بنقل تفاصيلها قدر اهتمامه بملاحظة ما تتركه أحداثها التراجيدية من تشويهات نفسية، تجعلهم يخافون من الآتي، ويهربون من دون طائل من مواجهة نهاياتهم المفجعة، ويتمنّون في دواخلهم لو أنّهم جميعاً يفعلون كما فعل آدم، يوم أوقف الزمن، وحوّل تقلّباته إلى أناشيد خاصة به، لا يسمعها غيره.

بعينٍ سينمائية نَبهة، تعرف كيف تُشكّل المَشاهِد التي تروي حكاية آدم الغريبة في قريته الواقعة غربي العراق، وبالقراءة المتمعّنة للتاريخ العراقي، يتكوّن النصّ البصري، وتنزاح عنه مهالك السقوط في فجاجة السياسة. عبارة "كان يا ما كان في بلاد الرافدين" تُعيد الحكاية إلى جذرها المثيولوجي. تواتر أرقام أعوام فاصلة من التاريخ الحديث للعراق على الشاشة (1946، 1952، 1964، 1981، 2014) تُقرّب أزمنة أحداثها. عقود من الزمن تمرّ وابن القرية يرفض الاستجابة إلى دعواتها، والانغماس في مجرياتها.

منذ أنْ قرّر تقليل عدد نبضات قلبه، حتى يتوقّف جسمه عن النموّ، والقرية في حيرة من أمرها. جميع أقرانه كبروا، وعاشوا حيواتهم كما كان مُقدّراً لها أن تُعاش، إلا آدم، الذي يظلّ صبياً يُراقب تحوّلات حياتهم، كأنّه شاهد عليها وعلى بؤسها. يتحمّل تبعات قراره، ويتآلف مع عزلته ومع سجن والده له في غرفة معزولة. رؤيته جثمان جَدّه المتوفّي دافعٌ ظاهر للقرار، ومُرادف لفكرة مُعاندة الموت. الهروب من مواجهة الزمن وأوجاعه باطنٌ مُضمر، يُقارب الرؤية الحصيفة لرشيد لتاريخ بلده.

 

 

التواريخ المُعلنة على الشاشة لا تُجلي حقيقة ما تحمل في طياتها من فواجع، قدر ما فيها من قوّة تحفيز على تأمّل مسار تاريخي طويل، العنف والاضطرابات والحروب تلازمه وتُحيله إلى وصمة باقية، تنال القريبين من آدم حتّى اليوم. مسار حياة أخيه الأصغر علي (التمثيل في مراحل مختلفة من حياته لميكائيل محمد وبسام كاظم وأوس صلاح وستار عواد وواهر يحيى)، الضابط العسكري الذي دفعته أهوال الحروب إلى كائن منسحب ومُدمن على الخمر، يُبدّد توتّراته بمعاشرة الغجريات. ابنة عمّه إيمان (سما علي وسما عدي وهدى شاهين وآلاء نجم وحياة الشواك) وخيبتها من الزواج به، انتهت شبه مُختلّة العقل. والدته تهجر المكان، وصديق طفولته المخلص أنكي (مصطفى رائد وأسامة عزامي وتحسين داحس وأحمد عزامي ود. عبد الجبار حسن) تنتهي حياته أيام طغيان تنظيم داعش. وحده آدم يظلّ مُخلصاً لبراءته، وناجياً من الموت، مُستقوياً في مواجهة عبثيته بخلود طفولته.

"نشيد آدم" لا يبحث عن الزمن. مثل بطله يريد الهروب منه، لكنْ بفارق أنّه يريد تأمّل مساره وتقلّباته الحادّة برؤية سينمائية، تستدرج مفردات الاشتغال الجمالي المطلوب إليها، لتتكامل معها وتُكمِلها في مسار سردي هادئ الإيقاع، شاعري التعبير. هذا الأسلوب يختاره عدي رشيد ويشتغل على تحقيقه، مع فريق عمل يبدو في المُحصّلة أنّه يعرف كيف يجعل منه شريكاً، يتقاسم معه رغبته في إنجاز عمل سينمائي مختلف، يجمع بين الاشتغال الجمالي، الحاصل من جودة مفردات الصنعة السينمائية، وقراءة نقدية واعية لواقع عراقي مجبول على الخيبات والمرارات.

هذا التوصيف مُتأتٍ جمالياً من تمثيل بارع، يشترك في أداء الدور الواحد أكثر من ممثل، استجابة لمتطلّبات الكتابة (السيناريو، الذي كتبه عدي رشيد نفسه، حاصل على جائزة اليسر لأفضل سيناريو، في مسابقة الأفلام الطويلة في الدورة الرابعة لـ"مهرجان البحر الأحمر السينمائي الدولي"، المُقامة بين 4 و12 ديسمبر/كانون الأول 2024). بساطة تصويره (اللبناني باسم فياض) وجماله مُتوافقان مع ميل ظاهر إلى تقديم عمل يجمع بين البساطة الثرية والتأمّل الشعري في عالم الطفولة.

هذا ربما يُفسّر لماذا يُهدي رشيد فيلمه إلى ذكرى المخرج الإيراني عباس كيارستمي.



عرض مصدر الخبر



>