العراق وصراع الاحتلالين
منذ عام 2003 ومرحلة ما بعد الغزو الأميركي للعراق وإسقاط نظامه السابق؛ تتنازع خريطة النفوذ في هذا البلد قوتان لا ثالثة لهما، أميركا التي أسقطت النظام وإيران التي استغلت إسقاط عدوها اللدود، تنازع كان، في أحيانٍ كثيرة، يوحي لك بأنه سيصل إلى مرحلة الحرب بين الطرفين، إلا أن واقع الحال وكواليس الأمور ربما تختلف كثيراً عن ظاهرها.
تؤكّد الوقائع أن هناك تناغماً أميركياً إيرانياً في عراق ما بعد 2003، حتى وصل إلى منصب رئيس الحكومة وكيفية اختيار الشخص المناسب لهذا المنصب بناءً على مصالح البلدين، وليس بناء على مصالح العراقيين وبلادهم، وفي ذلك شواهد كثيرة، منها ما ذكره السفير الأميركي الأسبق زلماي خليل زاد في كتابه "السفير"، حيث أشار إلى الآلية التي جرى فيها التوافق الأميركي الإيراني على اختيار شخص نوري المالكي لحكومة 2006 .
أما مرحلة التنسيق الميداني العسكري والاستخباري بين البلدين في العراق، فقد كانت على أعلى مستوى، وكثيراً ما لعبت طهران دوراً فاعلا في تقديم المعلومات الأمنية لخصمها الأميركي حول طبيعة تحرّكات المقاومة العراقية طوال السنوات الأولى للحرب. في المقابل، كانت أميركا تغض الطرف، في أحيانٍ كثيرة، عن تصرّفات المليشيات العراقية الموالية لإيران، بل حتى عن تحرّكات من كانت تصنفهم أميركا إرهابيين، من قادة في فيلق القدس الإيراني إلى قادة وعسكريين في الحرس الثوري ممن كانوا يتنقلون بين العراق وإيران، وحتى إلى سورية.
رفضت إدارة ترامب منح العراق استثناءً لاستيراد الغاز الإيراني لتشغيل محطات توليد الطاقة الكهربائية، الأمر الذي سينعكس سلباً على واقع الحياة اليومية في العراق
ولعل ملفّ التخادم الأميركي الإيراني تجلى في أبهى صورهِ إبّان سيطرة تنظيم داعش على عدة محافظات عراقية. يومها كان قاسم سليماني (اغتالته أميركا مطلع 2020 في بغداد) الجنرال الإيراني الأبرز على الأرض، والطائرات الأميركية توفر له الحماية هو وفريقه من السماء.
وطوال سنوات من العقوبات الأميركية على إيران، سمحت واشنطن لطهران بالاستفادة من علاقاتها الاقتصادية مع العراق، بل كانت تمنح العراق استثناءً من تلك العقوبات، لعلّ من أوضحها ملف استيراد الغاز الإيراني لتشغيل محطات توليد الكهرباء في العراق، الذي كان يدرّ أموالاً سنوية ضخمة للخزينة الإيرانية، ناهيك عن ملف تهريب النفط الإيراني عبر العراق، ومعها ملفات اقتصادية كثيرة، غضّت فيها واشنطن الطرف عن التهرّب الإيراني من العقوبات الاقتصادية عبر العراق.
لكن في السياسة ولغة المصالح المتبدلة والمتبادلة، لا شيء يبقى على حاله ودوام الحال من المحال، فأميركا في العهدة الترامبية الثانية عازمة على استكمال ما بدأته إسرائيل من تدمير لما يسمّى محور المقاومة بقيادة إيران وأذرعها في المنطقة، فمنذ 7 أكتوبر/تشرين الأول (2023)، والخط البياني لاستهداف هذا المحور في تصاعد، ومع تدشين ترامب عهده الجديد، بدأت بوادر حملة عقوبات أميركية كبرى على إيران، لن تستهدف إيران واقتصادها فحسب، وإنما أيضا كل المنافذ التي كانت سابقاً بوابات للتهرّب والتهريب والالتفاف على تلك العقوبات، ومنها وفي مقدمتها العراق، فما هي العقوبات المنتظرة على العراق؟
أميركا في العهدة الترامبية الثانية عازمة على استكمال ما بدأته إسرائيل من تدمير لما يسمّى محور المقاومة بقيادة إيران وأذرعها في المنطقة
دشّنت مجموعة من أعضاء الكونغرس الأميركي حملة ضغط كبرى على إدارة ترامب من أجل فرض عقوبات اقتصادية على كيانات عراقية تتعامل وتسهل التفاف إيران على العقوبات الاقتصادية الأميركية، سواء تعلّق الأمر بمليشيات مسلحة لها ارتباطات اقتصادية مع إيران أو شركات عراقية أو مصارف، ووصل الأمر إلى المصرف المركزي العراقي، المتهم بتسهيل عمليات تهريب الدولار إلى إيران، حتى إن تقارير استقصائية أفادت بأن قيمة ما يدخل إيران من أموال مهرّبة من العراق تصل إلى نحو 300 مليون دولار شهرياً.
أخيراً، رفضت إدارة ترامب منح العراق استثناءً لاستيراد الغاز الإيراني لتشغيل محطات توليد الطاقة الكهربائية، الأمر الذي سينعكس سلباً على واقع الحياة اليومية في العراق، خاصة أن جزءاً كبيراً من الطاقة الكهربائية هي نتيجة توليدها بواسطة ما يصل إلى العراق من غاز إيراني (نحو 40% من الطاقة الكهربائية في العراق مصدرها الغاز الإيراني). وقد ظلت طهران تعتبر هذا الملف خطّاً أحمر في علاقتها مع العراق، ورفضت السماح للعراق ليس في الاستفادة من كميات الغاز المصاحبة لاستخراج النفط، وإنما حتى من الاتفاق مع دول أخرى لتوريد الغاز إلى العراق بدلاً من الغاز الإيراني، فقد كانت عقود الغاز الإيراني المباع للعراق رئة مهمة يتنفّس منها الاقتصاد الإيراني المُحاصر.
طوال سنوات من العقوبات الأميركية على إيران، سمحت واشنطن لطهران بالاستفادة من علاقاتها الاقتصادية مع العراق
الأكثر من هذا وذاك، أن أموال النفط العراقي المباع ما زالت تذهب إلى الفيدرالي الأميركي، الذي ينقلها على شكل دفعات شهرية إلى العراق، تغطي حاجته التشغيلية، فماذا لو أن العقوبات الأميركية وصلت إلى هذا الملف الحساس، وبدأت إدارات الرقابة الأميركية التدقيق في الأموال التي يصرفها العراق شهرياً، ويذهب جزءٌ منها إلى يد المشغل الإيراني عبر الحدود؟
يحاول العراق الرسمي، ومن خلال سياسة مسك العصا من الوسط، أن يوازن بين وضعيه، السياسي والاقتصادي الهش، وبين إملاءات واشنطن وإملاءات طهران، فهو يرى أنه بحاجة إلى كلا الخصمين الصديقين، ويعتقد أن عملية التفريط بأيٍّ منهما ستأتي بنتائج عكسية، فغضب إيران سيعني غضب المليشيات الموالية لها، ومعها الأحزاب التابعة، وما يمكن أن تشكله من ضغط على الحكومة، وغضب أميركا سيعني انتحاراً اقتصادياً بكل ما تعنيه الكلمة من معنى، والدخول في متاهة الاحتجاجات الشعبية التي خبرتها بغداد في ثورة تشرين (2019).
تستدعي الخيارات الصعبة أمام حكومة بغداد مقاربة من نوع آخر، قد تكون بالضرورة، في لحظة؛ اختيار الموقع المناسب في صراع سينعكس حتماً على العراق، موقع ليس بالضرورة في المنتصف. وبغير ذلك، أعتقد أن العراق قد يدخل متاهة كبيرة تشبه تماماً، وربما تفوق؛ متاهة ثورة تشرين، ولكن الإخراج، هذه المرّة، سيكون مختلفاً، فليس بالضرورة أن تبقى المنطقة الخضراء، حيث مقرّ الحكومة والمسؤولين؛ مغلقة بوجه المتظاهرين.