مجدّداً... دعوات إلى تقسيم العراق

العربي الجديد

مجدّداً... دعوات إلى تقسيم العراق

  • منذ 3 يوم
  • العراق في العالم
حجم الخط:

لم يكن قد مضى، في خريف عام 2006، على وجودي في عمّان سوى أشهر قليلة، بعد أن خرجت فارّاً من يوميات الموت العراقي عقب تفجيرات سامراء في شتاء ذلك العام. يومها كان العراق بالنسبة لي شبحاً يؤرّقني، فقد كانت الصور التي حملتُها في ذلك الشريط المسمّى بالذاكرة؛ داميةً حدَّ المرض النفسي، فهي لم تكن مشاهداتٍ عابرةً، بعضُها كان لمن تعرف ومن تُحبّ، أصرَّت حينها إلّا أن تلتصق بجدار ذاكرة متعبة.
لم يكن الوطن وقتها أغلى من الدّماء التي كانت تُسال على ترابه. بالنسبة لي، كنتُ مع أيّ حلٍّ يحفظ دماء الناس، حتى لو قُسّم العراق بين عشر دول وكيانات، وليس بين ثلاثٍ كما كان يُطالب به بعضهم حينها. يومها نظّم مركز القدس للدراسات ندوةً عن العراق، استضاف فيها الأستاذ في كلية العلوم السياسية بالجامعة المستنصرية، حسيب عارف العبيدي، وبعد أن ألقى محاضرته فُتح باب الأسئلة، كنت آخر السائلين، إلّا أنه أصرّ أن يبدأ بالردّ على سؤالي أولاً، وكان ملخّصه لماذا تُصرّون على وحدة الوطن؟ لماذا لا تُطرح فكرة الفيدرالية والتقسيم إن لزم الأمر، المهم أن نحفظ حياة الناس لا وحدة التراب؟

تُدرك إيران اليوم أنها تفقد أوراقها واحدةً بعد أخرى، في ظلّ تداعيات متواصلة وغير منتهية لما جرى عقب "7 أكتوبر"

في معرض ردّه، قال العبيدي، إنه يستغرب أن يخرج هذا السؤال من عراقي من محافظة الأنبار، التي كانت حينها تحمل لواء المقاومة ضدّ القوات الأميركية المحتلّة، ثمّ راح يسرد سرداً تاريخياً عن أهمية العراق الواحد الموحّد، وكيف أن مثل هذه الدعوات (التقسيم والفَدرَلة) هي ما تسعى إليه القوّات المحتلّة.
عاد العبيدي إلى بغداد، وبعدها (ربّما بأيام) تناقلت وسائل الإعلام نبأ اختطافه وقتله لاحقاً (رحمه الله!). اليوم، وبعد 22 عاماً على الغزو الأميركي للعراق، وبعد 22 عاماً على حكم الأحزاب الشيعية، مع هامش مشاركةٍ شكليةٍ كرديةٍ وسُنّيةٍ؛ تُطرح من جديد فكرة تقسيم العراق، ليس مجرّد فيدرالية وحكم لامركزي على شاكلة ما هو موجود في إقليم كردستان العراق، فهذه المرّة يأتي الطرح من شخصياتٍ تمثّل القوى الشيعية المتحكّمة بالواقع السياسي العراقي منذ 2003، حتى وصلت إلى رأس الهرم السياسي الشيعي، نوري المالكي، الذي تحدّث أن هناك خشية من تكرار سيناريو سورية في العراق، مهدّداً بأنه في حال سعى بعضهم إلى ذلك، فإن لدى شيعة العراق خيرات البلاد كلّها، ويمكن أن يكوّنوا دولتهم الخاصّة.
لا يبدو أن تصريحات المالكي كانت حديثاً عابراً، وإنما هي بمثابة تهديد صريح وواضح لكلّ من يعتقد أن العراق يمكن أن يكون غير العراق الذي تشكّل عقب الغزو الأميركي (2003)، العراق الذي تحكمه (وتتحكّم به) أحزابٌ وقوىً تابعةٌ أو مواليةٌ لإيران، كما أن هذا التصريح لا يمكن فصله عن مسرح العمليات الجارية في الشرق الأوسط منذ 7 أكتوبر (2023)، وفكرة تغيير الشرق الأوسط التي ينادي بها رئيس وزراء دولة الكيان نتنياهو، وأيضاً رسالة الرئيس الأميركي دونالد ترامب إلى المرشد الإيراني الأعلى علي خامنئي، التي منحه فيها شهرين للاستجابة للمطالب الأميركية، أو مواجهة الخيار العسكري.
تُدرك إيران اليوم أنها تفقد أوراقها، واحدةً بعد أخرى، في ظلّ تداعيات متواصلة وغير منتهية لما جرى عقب "7 أكتوبر"، وتدرك أيضاً أن فقدان سورية بعد هزيمة حزب الله في لبنان سيجرّ إلى محاولة تجريدها من نفوذها في العراق، خاصّة أن أوراق الضغط كلّها التي لديها في العراق لا تساوي شيئاً أمام ورقة المال التي تتحكّم بها واشنطن جيّداً، وقادرة أن تخنق فيها بغداد بقرار تنفيذي واحد من ترامب. بالتالي، تتحسّب إيران مصيراً آخر ينتظر نفوذها في العراق.
لم يكن العراق يوماً إيرانيَّ الهوى، ولا يبدو أنه يمكن أن يكون. في انتفاضة 2019 التي بدأت في المحافظات الجنوبية (الشيعية) كان الشباب العراقي المنتفض يردّد شعارات واحدة "إيران برّا برّا"، ووصل الحال بالشباب المنتفض أن يحرق القنصليات الإيرانية في البصرة وكربلاء والناصرية. بعبارة أخرى، ما تلاحظونه من هوى إيراني في العراق لا يتعلّق بالشعب، وإنما بالطبقة السياسية الموالية لإيران، التي كبرت ونمت طوال عقدَين.

لا يتعلّق الهوى الإيراني في العراق بشعبه، وإنّما بالطبقة السياسية الموالية لإيران

من هنا، تسعى إيران إلى مجابهة الضغوط الأميركية بطرح ورقة لعب جديدة، ورقة لعب قد تزعج واشنطن، وهي فكرة تقسيم العراق، الذي لا يبدو أن أميركا ترغب فيه (على الأقلّ حالياً)، فإيران تدرك أن تقسيم العراق قد يؤدّي إلى إضعاف الدور الأميركي في المنطقة، إذ ستفقد واشنطن نفوذها على كيانٍ موحّدٍ قوي. في المقابل، قد يعزّز ذلك من سيطرة إيران على كيان شيعي موالٍ لها، ممّا يمنحها عمقاً استراتيجياً أكبر.
بعد 22 عاماً على احتلاله، هل يمكن القول إنّ فكرة تقسيم العراق باتت من الماضي، وإن الخطر قد زال، رغم هذه الدعوات التي تصدر من بعض الساسة العراقيين تحت ضغط المتغيّرات الإقليمية؟ ...من الصعوبة بمكان الإجابة عن هذا السؤال؛ نعم قد لا ترغب واشنطن في تداول فكرة تقسيم العراق، فهي لا ترى إلى ذلك حاجةً، لكنّ حلفاء واشنطن في تلّ أبيب قد يتلقّفون هذه الفكرة، ويمنحون هذا المشروع، الذي يبدو أنه قد مات سريرياً، قُبلة الحياة من جديد، خاصّة أن فكرة تقسيم الكيانات العربية الكبيرة المجاورة لدولة الكيان هي فكرة قديمة، فهل سيدرك ساسة العراق خطورة التلاعب بمقدّرات البلاد عبر تصريحات ربّما يرونها عابرةً أو جزءاً من مناورة سياسية لخدمة هذا الطرف أو ذاك؟



عرض مصدر الخبر



تطبيق موسوعة الرافدين




>